السبت، 17 مارس 2012

د. إسماعيل مهنانة: من تقديم كتاب مدرسة فرانكفورت النقدية

في ثقافة المدرسة الفلسفية:

لم تكن النظرية النقدية، أو مدرسة فرانكفورت، جهدا فرديا أو فلسفة تدور في فلك شخصية واحدة، لكي يكون نقلها إلى العربية سهلا في متناول الجهد الفردي، وبقدر عجبي لخلو المكتبة العربية من أي عمل موسوعي يلمّ بكل شخصيات وأبعاد مدرسة فرانكفورت، بقدر زوال الدهشة لما فاجأني من تعقّد الظاهرة النقدية للمدرسة؛ امتداداتها، تشعّباتها وتأثيراتها في فلسفات القرن العشرين وإلى غاية اليوم، ولهذا ارتأينا مع نخبة فلسفية من الأكاديميين العرب، أن نستنهض الجهود المعزولة للباحثين العرب في مشاريع أعمال موسوعية جماعية، توحّد وتركّز وتنسق البحث الفلسفي والفكر النظري العربيين.

يدخل كتاب "مدرسة فرانكفورت النقدية" بوصفه المجلّد الثاني من سلسلة الكتب الجماعية التي تصدرها "الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة" بعد مجلّد "الفلسفة السياسية المعاصرة".

في هذا الكتاب يتحرّك البحث الفلسفي في حركة نسقية متابعة لكل أبعاد وشخصيات وموضوعات مدرسة فرانكفورت، تغطية تاريخية وفلسفية ونصية شاملة، حيث تحققت خطة الكتاب وفق اربعة ابواب رئيسة: أولها: القسم التاريخي الذي نعرض فيه إلى أجيال المدرسة الثلاثة، وفي الباب الثاني: خصص لمقاربات نقدية تلتحم في افقها مع هموم المدرسة، وجاء الباب الثالث: ليشتغل على بحث ميكانيزمات ومحركات الخطاب النقدي للمدرسة من الروافد والمرجعيات الفلسفية والتاريخي، التي نهلت منها المدرسة أسسها وأطرها النظرية، وكيف انعكست بدورها على الفلسفات الأخرى، أما الباب الرابع والأخير فهو مخصص لتقديم أهم النصوص الحاملة لفكر المدرسة (مترجمة).

لماذا الكتابة عن النظرية النقدية؟

 ليس ذلك فقط لأنها خطوة أولى لإرساء تقاليد فلسفة الإبداع الجماعي، فقد اخترنا النموذج الأبرز لهذا النوع من الفلسفات في الفكر الغربي، بوصفها الحركة الفلسفية الأوسع انتشارا والأكثر تأثيرا في القرن العشرين، و كذلك لحاجة الفكر العربي للفكر النقدي أكثر من أي فكر آخر. فثمة تشابه تاريخي واضح بين العصر الذي نشأت فيه مدرسة فرانكفورت وعصرنا العربي الراهن، فقد بلغ التشيؤ وشيوع الأفكار الجاهزة، وسرعة التصديق مبلغا مريعا من واقعنا، وانتشرت الديكتاتوريات والأنظمة والأيديولوجيات الشمولية، والتطرّف العقائدي والطائفي، أكثر مما انتشر ذلك في أوروبا الثلاثينيات من القرن الماضي، بل اتسعت دائرة البلاهة والتطيّر والاستخفاف بالعقل بشكل يفوق تصورات العقل نفسه، واستحكمت رأسمالية فجّة ،ومسخ طبقية رجعية في أقصى تجلياتها، مقابل بروليتاريا رثة مقطوعة الظل النظري، واستسلام متهافت للجماهير على الاستهلاك المقيت للسلع.

لا نستبق التشخيص وإسقاط النظرية على واقعنا، حين نقول أن فكرا يستلهم تراثه الحي لإعادة بعثه محمّلا بشواغل عصرِ مستقبلي، يمثل استراتيجية فلسفية مبدعة في حد ذاته.

إن تفتح الماركسية على كل رياح الميراث الفلسفي العظيم بتلك التخريجات المبتكرة، فتقرأ ماركس في ضوء فرويد والتحليل النفسي، كما فعل هربرت ماركيوز، وتقرأه قراءة هيجلية كما فعل جورج لوكاش وهوركايمر، وتقرأه بهوسيرل كما فعل أدرونو، ثم تعيد بعث الحداثة في عدم اكتمالها الكانطي كما فعل هابرماس، استراتيجيات متقاطعة ومحكمة المرامي في تحريك الإرث الفلسفي، كم نفتقدها في فكرنا العربي.

رب فكرِ فردي قد يسقط في الصنمية وتأليه المفكّر الذي أنتجه، وقد يتكلّس في أطروحات تنسب لصاحبها، وقد يتحول إلى عقائد تقتل حيويته وثراءه، وقد يصيبه الموت بلعنة العمر القصير البروموثيوسية، وتلك أكبر أخطار تهدد الفكر، لكن فكرا جماعيا مثل فكر مدرسة فرانكفورت قدّ تملّك حصانته من كل هذه الخطوب والعيوب، فهو عبارة عن حوار لا ينتهي بين عقول متعددة وأجيال متجددة، ليس ثمّة من يقطع شكا بيقين، ليس ثمة من يغلق خلفه الأبواب، ليس ثمة من ينتج خطاب للحقيقة، تاريخانية عديمة الثبات، سيرورة ثورية تزمّن العقل، كما يعلن ماركيوز في "العقل والثورة"، وصيرورات لا متناهية من التواصل والنقاش، أو عقلانية تواصلية كما يرى هابرماس.

 هكذا نجد الجيل الأول للمدرسة اشتغل على مشاغل العشريات السوداء لألمانيا والغرب، فمن جدل العقل والتنوير لهوركايمر، الى "الخوف من الحرية" لإريك فروم. إلى الجذر القمعي للحضارة وإنسان البعد الواحد/ماركيوز. ثم تنتهي الحربين الكونيتين بأسئلة فلسفية كبرى، يتسلّمها الجيل الثاني ويتسلّم معها رهان المصالحة/القطيعة مع الجراح، رهان النقاهة والمراجعات الفلسفية الكبرى؛ يصرفها هابرماس وجهات سجالية عدة، فمن سجال "النازية في الفلسفة" الذي أشهره في وجه مارتن هيدغر، ومحاسبة الالتزام السياسي للفلاسفة، إلى نقاش الحداثة غير الناجزة مع الفلسفة الفرنسية إلى نقاش حول وجاهة أطروحات ما بعد الحداثة ضدّ ميشال فوكو وفرانسوا ليوتار وجان بودريّار، ولا ننسى أن نشير إلى "صدمة الأمركة" التي عاشها هذا الجيل الثاني بوصفه جيلا مخضرما بين الفلسفة الألمانية والحياة الجامعية في أمريكا، كان على الفلسفة إذن أن تستفسر عن مصير إنسانية يقودها هذا العصر الأمريكي الرأسمالي، وحروبه الباردة والساخنة، مسائلات يحمل همّها الجيل الثاني، لكن هذا العصر الأمريكي/السوفياتي، هو أيضا عصر التنافس على التسلح النووي، وتدمير البيئة، والاكتشافات البيولوجية الخارقة، عصر الاستنساخ والاحتباس الحراري، والتغيرات الإيكولوجية المتسارعة، هو مجمل الانشغالات الفلسفية للجيل الثالث والأخير، جيل إكسيل هونيث وسيلا بن حبيب، فقد انفتحت فلسفاتهما على مسارات بيوطيقية وإيكولوجية ثرّة، كما انها لم تنس الانهمام الواقعي والفكري بمسألة التعددية الدينية والثقافية التي تثار اليوم كمشكل عالمي.

بهذا تكون مدرسة فرانكفورت أكثر من فلسفة، أكثر من تيار فكري، بل هي نهضة متوثبة للفكر، ومرصدا للتحذير من تجاوزات السلطة أو تمجيد الفكر لها، وعيادة حضارية تقدم التشخيصات اللازمة لمجتمعات غارقة في متاهات مرضية من تضخّم الرأسمال، وجماهير منسية في الاستهلاك المتسرّع للسلع، كشف دؤوب عن مسارات مبتكرة للحرية والتحرر، لعّل التحرر يكون في تخفيض آلة القمع الجنسي، وكشف جماليات جنسية أقل أوديبية من تلك التي صنعت الحضارة الغربية، أو لعلّ التحرر يكون بالقدرة الخارقة للفن على كشف مسارات الممكن من صلب مستحيلات الواقع، أو ربما التحرر يكون في الكشف عن ممكنات إنسانية تواصلية، عن نزعة إنسانية تعانق الكوني، الصامت والعابر للحضارات والإثنيات، الكوني الذي هو أسلوب حرّ في الانتماء المسالم والوديع للطبيعة والبيئة، كما سيحاول الجيل الأخير من المدرسة المرافعة لأجله.

                                           
                                         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق